تراث الأمة – أي أمة – هو رصيدها الباقي وذخيرتها الحّية وعنوان حضارتها ومفتاح ثقافتها والصورة المُعِّبرة عما كانت عليه في كل مجالاتِ الحضارة والثقافة والفنون ، ويُشكلُّ التراثُ دوراً أساسياً في تشكيل وجدان الأمة وحاضرها وصور ماضيها . ولقد ارتبط الفن المسرحي بالتراث ارتباطاً عضوياً وظهر هذا جلياً في كتابات الكثير من الكُتَّاب المسرحيين علي اختلاف ثقافاتهم وتباين حضارتهم وتباعدهم المكاني والزمني علي مدار عصور مختلفة ، فاليونانيون نهلوا من أساطيرهم وحكاياتهم الشعبية وقدموها لتصبحَ فيما بعد تراثاً إنسانياً متوارثاً وجاء الرومانُ فلم يبتعدْوا عن رؤية اليونانيين للتراثِ وأهميته فاستلهموا أعمالاً مسرحية من متنه وروحه وأيضاً نلمسُ المثال الأشهر لذلك "وليم شكسبير" الذي نهل من ملفات " هولتسيد" للحكايات الشعبية وقدَّم العديد من المسرحيات التي تباينت في تعاملها مع التراث الشعبي للقَصص الأوروبي كما استلهم من التراث التاريخي وقدَّم مسرحيات أمثال "يوليوس قيصر" ، "ريتشارد الثالث" وغيرها ، فالتراث محور اهتمام الكُتَّاب المسرحيين المصريين ؛ لأنه يمثل قيمة انسانية ضخمة كما يُشكِّلُ قيمة قومية خالدة نظراً لشمولية هذا التراث وتنوعه في الدور الحضاري والتنويري لخدمة المجتمع المصري من وجهة أخري.
ويؤكدُ صلاح عبد الصبور علي أهمية العلاقة بين التراث والواقع المعايش المعاصر في ظل الوعي بالتراث كي يحدثَ " التفاعل والامتزاج بينهما فينبغي إذن أن تتمَّ العودة إلي التراث عودة منتصرة ، وأن يلتقي هذا الموروث في نفوسنا مع الحضارة المعاصر بين مجامعه ، ويتمُّ باندماجها مزاوجة ذو قيمة فيه يخرج من ثوبها إبداع معاصر".(1)
ويختلف دوافع واستدعاء الموروث الشعبي فقد يكونُ الاستلهام دافع قومي لمواجهة مستعمر وغازي يحاولُ طمس ملامح البلد التي يستعمرها فكان اللجوء للموروث التاريخي بهدفِ المقاومة في وجه التدخل الأجنبي الأوروبي ، ولقد ازدادت الرغبة لاستلهام الموروث الشعبي بدافع القومية والتشبث بجذوره العريقة أو تعرية الواقع المتردي عن طريق استحضار واقع مزدهر في ذلك الواقع مثلما فعل " علي أحمد باكثير في مسرحياته التاريخية أحلام نابليون " إبراهيم باشا" "واخناتون ونفرتيتي " أو الاشادة بالمفاخر والأمجاد الماضية وبعث الهمم وتقوية العزيمة لمواجهة الأخطار كما فعل في " عمر المختار " و" ابن لقمان " أو قد يكون الاستلهام الموروث الشعبي من الماضي بدافع سياسي مثلما فعل علي سالم في مسرحية " انت اللي قتلت الوحش" وعالج فيها الحرية والديمقراطية الشكلية التي عانت منها مصر والبلاد العربية وطبيعة العلاقات المتأرجحة بين الحاكم والمحكوم لغياب المشاركة الشعبية في الحكم . برزت أسماء كثيرة مصرية في التعامل مع الموروث الشعبي أمثال توفيق الحكيم ، شوقي عبد الحكيم ، نجيب سرور ، يسري الجندي ، أبو العلا السلاموني ، ألفريد فرج ، نبيل بدران وغيرهم ولقد اختلفت الرؤية الفكرية والفنية لدي الكتاب في استلهام الموروث الشعبي وتفعيله في التوظيف الفني فمنهم مَنْ استلهم الموروث من أجل الموروث ومنهم مَنْ عمل علي ربطه وممازجته بالمعاصرة لإعادة تمييز الواقع من جديد ونقده في التناول والطرح فحمَّلها براعة دلالات واسقاطات الواقعة المعاصرة وهناك مَنْ يمزجُ بوعي شديد بين الموروث الشعبي والاتجاهات والمدارس والمناهج الغربية في إطار رؤيته الفكرية ومعالجته الفنية أي لا يقف موقف الناقل او المسجل بل تعدَّي ذلك إلي التمثيل الواعي لمعطيات التراث من خلال عملية الخلق الفني التي تركزُ علي التراث لتجسيد رؤية خاصة تدور في نفسه قد تتعلق بعلاقة الإنسان بالمجتمع علي المستوي الفردي حاكماً أو محكوماً ، او باعتباره فرداً في جماعة له امام طموحه المشروعة ومن الدوافع الي استلهام الموروث الشعبي هو محاولة استلهام مصادره وظواهره التراثية لتكون أكثر تعبيراً عن الوجدان الفردي الجماعي للمتلقي المصري وأكثر تجسيداً لهمومه واهتماماته وآماله وآلامه فجاء استلهام التراث والتشبث بالهوية ومظاهر الفرحة الشعبية في مواجهة التغريب والحداثة الغربية وكانت أبرز تلك الدعوات التنظيرية في مسرحنا دعوة توفيق الحكيم في كتابه " قالبنا المسرحي " حيثُ دعا الي الدعوة الي استلهام بعض العناصر ذات الجذور التراثية في بلورة قالب مسرح عربي جديد مثل فنون الحكاواتي والمقلداتي والمداح الذي يعتمد علي السرد والتقلييد والتشخيص ويعتمد اعتماداً مباشراً علي الاتصال بالجماهير دون الحاجة إلي خشبة مسرح أو إضاءة . أو ديكور وملابس ومكياج ، كما دعا الدكتور " علي الراعي " إلي الأستفادة من التراث الشعبي ومن مظاهر الفرجة الشعبية الدرامية خاصة في الارتجال أو المسرح المرتجل كما وجد " يوسف ادريس " في " السامر " ضالته كواحد من ظواهر الفرجة الشعبية فهو مسرحٌ يعتمدُّ علي التجميع والمشاركة الشعبية بعيداً عن الشكل التقليدي للمسرح العربي لا أسوار ولا أبواب حيث ألغي المسافة الكائنة بين ما يؤدي الدور ومَنْ يشاهده ليحققَ المشاركة والتفاعلية بين الممثلين المتفرجيين فدعوة " يوسف ادريس " التي انطلقت في منتصف الستينيات من القرن العشرين أصداؤها عند النُّقاد والكُّتاب فشهدنا محاولات عديدة لاستلهام التراث الشعبي والأشكال المسرحية أمثال "خيال الظل" ، "البابات" ، "صندوق الدنيا" ، "الأراجوز" ، "الحكاواتي" ... وغيرها كما ساير "رشاد رشدي" الدعوة إلي استلهام التراث الشعبي والتأصيل لمسرح مصري فَكَتَبَ مسرحيته " اتفرج ياسلام" والتي مزجَ بين التراث الشعبي الفولكلوري المصري ممثلاً في توظيفه الفني لخيال الظل والمزج بينه وبين رؤيته للنتائج كما استوحي " ألفريد فرج" من التراث الشعبي ومن ألف ليلة وليلة وغيرها في مسرحياته الفنية مستفيداً من ظواهره وأنماطه التراثية ، علي الجانب الآخر يتسمُ إلابداع الشعبي بالتبديل والتغيير فهو إبداع شفاهي ليس له نص ثابت بل له سمات ارتبطت تاريخياً بتلك الابداعات التي لا تصدر عن أصحاب السلطات ممتلكي القدرة علي التسجيل والتدوين والطرح الرسمي لإبداعاتهم وبالتبعية يصبحُ ما هو شعبي هو المُعِّبر عن جماهير هذه الأمة التي تحتفظُ بجوهر هويتها المتميزة "(2) والموروث الشعبي |